اخر الاخبار

19‏/07‏/2013

من هو السيد فيهما؟ ومن الخادم؟ بقلم أحمد عبدالمعطى حجازى


حين نختلف مع المستشار طارق البشرى لا نختلف مع القانونى الضليع، ولا ننكر عليه علمه وفقهه، ولكننا نختلف مع السياسى صاحب المواقف المتغيرة التى لا ندرى إن كان يحتكم فيها لفقهه ويمتثل لعلمه، أم أنه على العكس يضع فقهه وعلمه فى خدمة تحولاته السياسية التى يعتبرها الآن حقاً أدار له ظهره فى مراحل سابقة، ثم رجع إليه الآن، والرجوع إلى الحق فضيلة!
لقد انتقل المستشار البشرى من مواقفه السابقة التى كان ينحاز فيها للديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ويتحدث عن الفكر العلمى الاشتراكى والطبقات الكادحة، ويستشهد بسلامة موسى ولينين، ويعارض فى المقابل جماعة الإخوان، ويتهمها بتسخير الدين للسياسة، والانحياز للقصر الملكى وللأقليات الحزبية والحكومات الرجعية التى استخدمت الإخوان وشجعتهم وأمدتهم بالأموال، وسمحت لهم بإنشاء التنظيمات العسكرية وشبه العسكرية، هذا الموقف الذى اتخذه طارق البشرى ووضحه، وأكده بفيض من المعلومات والوثائق فى كتابه «الحركة السياسية فى مصر» الصادر فى سبعينيات القرن الماضى، تراجع عنه فى العقود الأخيرة، وفيما أصدره خلالها من مؤلفات وفتاوى قانونية أعلن فيها انحيازه الكامل لفكر
الإخوان الذى يتناقض مع روح العصر ومبادئه ومطالبه، لأنه يجعل الدين أساساً للدولة ومصدراً وحيداً للتشريع ومرجعاً للنشاط الثقافى، كما نرى فيما كتبه المستشار البشرى عن الجامعة الدينية والجامعة الوطنية، وعن الشريعة والقانون الوضعى، وعن الإسلام والعلمانية، وكما فعل فى الفتوى التى أصدرها وهو يرأس الجمعية العمومية لمجلس الدولة حول دور الأزهر فى الرقابة على المصنفات الفنية، وأعطى فيها الأزهر الحق فى مراقبة الإنتاج الثقافى المصرى ومصادرة ما يرى فيه خروجاً على قيم الإسلام، لأن الإسلام كما جاء فى الفتوى هو «دين الغالبية الغالبة من الشعب المصرى بحسبان الشعب هو الركن الركين للدولة التى ينظمها الدستور، ومن ثم تقوم خصائصه الثابتة فى الواقع بحسبانها من خصائص الدولة».
والخلط واضح هنا بين الأغلبية السياسية والأغلبية الدينية، الأغلبية السياسية تعمل عملها فى إطار الانتماء للوطن الذى يوحد كل المصريين، ويعبر عن مصالحهم المشتركة التى هى موضوع السياسة ومجالها، أما الأغلبية الدينية فهى كما تشير التسمية حقيقة دينية وليست حقيقة سياسية، إنها وجود ثقافى واجتماعى يسهم فى تشكيل الوجود الوطنى لكنه لا يحل محله. وإذا كان الانتماء للوطن هو الانتماء الجامع المعبر عن هويتنا ومصالحنا وأهدافنا المشتركة فهو المصدر الذى تستمد منه القوانين، أما الانتماء الدينى فلا يصح أن يكون الدين مصدراً للقوانين لأن القانون يصدر باسم كل المواطنين وينظم ما هو مشترك بينهم ولهذا يقبلونه ويلتزمون به، والدين ليس مشتركاً ولو كان المؤمنون به أغلبية، لأن الدين ضمير فردى واختيار حر لا يخضع فيه المؤمن إلا لنفسه، ولما تفرضه عقيدته عليه، ومن هذه التفرقة التى تبدو واضحة جداً اشتق المصريون شعارهم فى ثورة ١٩١٩ «الدين لله والوطن للجميع».
لكن هذه التفرقة الواضحة لم تعد واضحة بعد أن شاعت فى العقود الأخيرة هذه العدمية الوطنية التى استغلتها جماعات الإسلام السياسى فى الترويج لبضاعتها التى تجعل فيها الدين بديلاً عن الوطن، وتحول المصريين إلى طوائف دينية، وتجعل الخلافة المزعومة التى تسعى لإحيائها بديلاً عن الدولة الوطنية، وعن مؤسساتها الديمقراطية حتى لقد تجرأ زعيم من زعماء الإخوان على مصر فقال فيها قولته البذيئة «طظ»، وجاء بعده الرئيس الإخوانى المعزول فحول سيناء إلى مستعمرة للإرهابيين، وحول مصر كلها إلى ولاية فى سلطنة إخوانية لأن الدين عندهم هو «الركن الركين للدولة»، كما جاء فى فتوى طارق البشرى التى تبنى فيها كلام الإخوان وردد شعاراتهم.
ولقد تلقف مجمع البحوث الإسلامية هذه الفتوى ليفرض نفسه فرضاً على الحياة الثقافية المصرية، ويثبت أنه ليس أقل من الإخوان تشدداً ورجعية، فلم يقنع بإبداء الرأى فيما كان يصدر من إنتاج ثقافى أو بالرد على ما يراه مخالفاً للإسلام كما يراه، وإنما جعل نفسه محكمة تفتيش تنفرد بالنظر وتصدر الأحكام وتنفذها كما فعل مع رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، وفى مؤلفات المستشار سعيد العشماوى التى صادرها المجمع، ولم تنل حتى الآن ما تستحق منا عناية، رغم حاجتنا الماسة لها فى الرد على جماعات الإسلام السياسى وتفنيد مزاعمها. وكما فعل المجمع مع أشعار حسن طلب، ومع رواية «العراة» لإبراهيم عيسى، وكتاب «خلف الحجاب» لسناء المصرى، وفيلم «الرسالة» لمصطفى العقاد، وفيلم «الغريب» ليوسف شاهين، ولا شك فى أن هذه المصادرات كانت إرهاباً رسمياً، وكانت فتاوى أهدرت دم المثقفين المصريين وشجعت على اغتيال فرج فودة ونجيب محفوظ والحكم على نصر حامد أبوزيد وعلى غيره.
ونحن نعرف أن تحول المستشار البشرى وانقلابه على موقفه الأول لم يكن حادثاً فردياً، وإنما كان ظاهرة شاركه فيها آخرون بدأوا يساريين ثم تحولوا فى ثمانينيات القرن العشرين، فاعتنقوا فكر الجماعات الدينية التى استخدمتهم فى مواجهة خصومهم الذين يتكلمون فى السياسة لغة يفهمها هؤلاء المتحولون، فبوسعهم أن يجادلوا الخصوم ويقدموا أنفسهم للجمهور بوصفهم خبراء أو قضاة، استمعوا للطرفين وحكموا فى النهاية لصالح جماعات الإسلام السياسى!
غير أن تحول هؤلاء وانتقالهم من معسكرهم الأول إلى معسكر الإسلام السياسى لم يكن نتيجة خبرة أو تفكير موضوعى اكتشفوا فيه ما لم يكونوا يعرفونه من قبل، وإنما كان استجابة لظروف قاهرة شعر فيها هؤلاء المتحولون بأنهم هزموا وخسروا رهانهم، فلم يبق أمامهم إلا أن يبحثوا عن راية أخرى يدارون تحتها هزيمتهم ويقلبونها إلى انتصار حققوه على أنفسهم وعلى غيرهم حين اعترفوا بالحق ورجعوا إليه، فضمنوا بذلك مكانهم فى الدارين، فى الدار الآخرة لأنهم وقفوا إلى جانب الجماعات الدينية، وفى الدنيا لأن الراية التى رفعوها ترفرف الآن على بلاد غنية سعيدة تجزل العطاء للعائدين التائبين!
أقول إن هذا التحول كان استجابة لظروف قاهرة شهدتها مصر والمنطقة والعالم كله فى العقدين الأخيرين من القرن الماضى.
فى آخر السبعينيات استطاع رجال الدين فى إيران بمساعدة بعض القوى الدولية أن يسقطوا الشاه ويفرضوا سلطتهم على إيران، وفى أواسط الثمانينيات سقط الاتحادالسوفيتى وسقط المعسكر الشرقى عامة، وشهدت مصر والعالم العربى سلسلة من الهزائم والانقلابات انتهت بسقوط المشروع الناصرى وتراجع المد القومى واقتسام السلطة فى معظم الأقطار العربية بين الضباط الانقلابيين وجماعات الإسلام السياسى، وتعاظمت الثروات النفطية وازداد نفوذ أصحابها ونفوذ الأمريكيين الذين حلوا فى المنطقة محل الأوروبيين الليبراليين والسوفييت الاشتراكيين، وفى هذا المناخ اهتزت قوى اليسار والديمقراطية فى مصر وتعرضت لسلسلة من التحولات والتراجعات.
فى أوروبا الغربية فقدت الأحزاب الشيوعية نسبة كبيرة من الأصوات التى كانت تحصل عليها فى الانتخابات وتحول أصحابها إلى اليمين العنصرى المتطرف، والذى حدث للناخبين الذين كانوا يصوتون لليسار حدث لمثقفين من أمثال روجيه جارودى الذى ترك مكانه فى الحزب الشيوعى الفرنسى وذهب إلى معمر القذافى ليعلن إسلامه!
والذى حدث فى أوروبا حدث فى مصر، ونحن إذن لا ننكر على المستشار طارق البشرى حقه فى أن يراجع نفسه ويعدل مواقفه ويغيرها، لكن من حقنا أن نفهم تحولات طارق البشرى لأن طارق البشرى ليس رجلاً عادياً يختار لنفسه، وإنما هو إذ يختار لنفسه يختار لغيره، فمن حقنا أن نسأله على أى أساس اختار؟ وهل كان السياسى فيه خادماً للفقيه العالم؟ أم أن الفقيه العالم كان هو الخادم؟! ومن هو الذى نستفتيه ونستمع له ونصدقه؟ ومن الذى يمد له أبوحنيفة رجليه ولا حرج؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق