اخر الاخبار

27‏/04‏/2011

قاتــل الله السياســـة /جمال البنا

قاتل الله السياسة.. التى تضطر الرجل الشريف أن يلف فيرائى ويتناقض ويخادع وينكر الحقائق الواضحة على رؤوس الأشهاد، وهو يعلم أنه يتكلم بصفة رسمية فى مجلس يمثل أمة، وأن كلامه ).
ترى من قائل الكلام أعلاه؟ هل هو الشيخ محمد عبده الذى كان يستعيذ من ساس ويسوس؟ هل هو الدكتور أحمد لطفى السيد رائد الليبرالية المصرية؟
كلا.. إن قائل هذا الكلام هو الإمام الشهيد حسن البنا (جريدة الإخوان المسلمين فى العدد الصادر فى ٢٦ أكتوبر سنة ١٩٤٦ ص ١)، وقد نقد فى كلامه هذا المستر بيفين، وزير خارجية بريطانيا فى وزارة حزب العمال، وكان من أكثر رجال السياسة البريطانية حزمًا وعزمًا، وكان متجاوبًا إلى حد ما مع السياسة المصرية، وأجرى مع إسماعيل صدقى أنجح مفاوضات كاد أن يتفادى بها العقبة الكؤود فى سبيل نجاح المفاوضات المصرية - الإنجليزية، وهى السودان، ومع هذا فإن السياسة جعلت منه منافقاً يرائى ويمارى، وما كان من هذا بُـد، فهذا هو جوهر و«فنية» السياسة
.
وهناك مقال آخر للإمام الشهيد نشر فى (جريدة الإخوان المسلمين، فى العدد الصادر فى ١٥ أكتوبر سنة ١٩٤٦) تحت عنوان «نحن وطنيون لا سياسيون ولا حزبيون»، عرض فيه لنشأة الإخوان وتطورها وموقفها من السياسة، فقال
(
:أول ما بدأت فكرة الإخوان ودعوتهم فى الظهور والتركز، وكان ذلك فى سنة ١٩٢٧ و١٩٢٨ الميلادية، كان هدفها الأول مقاومة تيار الإلحاد والإباحية الذى قذفتنا به أوروبا، والذى أخذ كثير من الكتاب والهيئات والحكومات يروج له ويعجب به ويدعو إليه دعوة قوية عنيفة اضطربت لها نفوس الغيورين على ما بقى من تعاليم الإسلام وزلزلت زلزالاً شديدًا.
وكانت وسيلة الإخوان إلى هذا المعنى تكوين جبهة من النفوس المؤمنة الفاهمة لتعاليم الإسلام فهمًا صحيحًا تعمل على تطبيقه فى نفسها وفى كل ما يحيط بها وتدعو إليه غيرها
.
وتقدم الزمن بالدعوة وأهلها فاصطدمت بهذه الأوضاع الفاسدة فى طرائق الحكم ووسائله وأساليبه فى مصر، ورأت أن الإسلام الحنيف يعتبر الحكم الصالح جزءاً من تعاليمه ويضع له قواعده ونظمه وأساليبه ووسائله وحدوده، وأنه يجعل من واجبات المسلمين أفرادًا وجماعات أن يعملوا على إيجاد الحكومة الصالحة، ولهذين السببين: تعذر قيام إصلاح اجتماعى مع وجود حكومات غير صالحة، واعتبار الإسلام العمل لإصلاح الحكم فريضة من فرائضه، لهذين السببين أدخل الإخوان المسلمون فى برنامجهم العمل لإصلاح الحكم بإقامته على دعائم من توجيه الإسلام، لا العمل للحكم نفسه، وشتان ما بين الوضعين
.
وكانت الوسيلة إلى ذلك الكتابة والنصح والمذكرات بعد المذكرات للحكومات المتعاقبة فى كل الشؤون الحيوية المهمة
.
وتقدم الزمن بالدعوة وأهلها مرة أخرى، فوجدوا أنه من المستحيل أن تقوم فى مصر أو غيرها من الأقطار الإسلامية حكومة صالحة، مادام هذا الاستعمار الأجنبى جاثمًا على صدر هذه الشعوب، والحكومات تأخذ بمخانقها وتحول بينها وبين الحرية والعزة والكرامة والرقى، كما وجدوا أن الإسلام قد فرض على أبنائه أن يعيشوا أحرارًا كرامًا، وألا يسمحوا لأحد كائناً من كان أن يدوس أرضهم أو يطأ بلادهم أو يتحكم فى شؤونهم، وأوجب عليهم حينذاك أن يجاهدوا من حاول هذا معهم بالأنفس والأموال، وجعل الجهاد عليهم فى هذه الحالة فريضة عين لا يغنى فيها أحد عن أحد ولهذين السببين كذلك: تـَعَـذر قيام حكومة صالحة فى ظل الاستعمار، وافتراض الإسلام الجهاد فى سبيل الحرية على أبنائه
..
أدخل الإخوان المسلمون فى برنامجهم العمل على مقاومة الاستعمار وتحرير أرض الوطن من موبقاته وخبائثه لا ليكون جزاؤهم على هذا وهدفهم من ورائه أن يحتلوا هم مكانه من التحكم والسلطان واقتعاد كراسى الحكم، ولكن لتظفر الأمة والحكومة بحريتها وعزتها وكفى، فيقوم فيها حكم صالح يفسح المجال لإصلاح اجتماعى صالح، وكانت وسيلة الإخوان ومازالت فى مقاومة الاستعمار تذكير الأمة بمجدها وإذكاء روح الحماسة والقوة فى أبنائها ومطالعتها بسوء آثار هذا الاستعباد فى مرافق حياتها وإرشادها والعمل معها بكل وسيلة مشروعة فى هذا السبيل،
وحين اشتمل برنامج الإخوان على هذه المعانى كان الإخوان يتمنون أن يعملوا لها وأن يوفقوا إلى تحقيقها، لا لوادى النيل وحده، ولكن فى كل قطر من أقطار العروبة والإسلام، التى نكبت بمثل ما نكب به هذا الوادى تمامًا من الفساد الاجتماعى والفساد الرسمى بفعل هذا الاستعباد الأجنبى، وذلك بحكم أن عقيدة الإخوان الإسلامية تجعلهم يقرون بالأخوة الكاملة لكل مسلم مهما كان وطنه وأرضه، ويحبون الخير لكل إنسان فى الأرض، والله يقول لنبيه «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ
».
وحين أخذ الإخوان يعملون لتحقيق هذا البرنامج الواسع لم يخطر ببالهم أنهم حزب سياسى، أو أنهم يسلكون سبل الأحزاب السياسية إلى تحقيق هذه الأهداف، كما لم يخطر ببالهم أن يناوئوا حزبًا أو يخاصموه أو يحتكوا به لأنهم يرون فى دعوتهم متسعًا للجميع، ويرونها أكبر من أن تقف موقف الخصومة الحزبية من أحد
.
وحين بدا لهم أن يخوضوا معركة الانتخابات البرلمانية لم يريدوا أن يكون ذلك باسم الهيئة، بل أصدرت الهيئة قرارًا بالإذن لمن شاء من الإخوان أن يرشح نفسه بذلك على أن يكون بصفته الشخصية لا بصفته الإخوانية، حرصًا على ألا تقحم الهيئة بصفتها العامة فى خصومة الأحزاب السياسية
.
كما لم يريدوا من وراء نجاحهم فى هذا الميدان أكثر من أن يعملوا لبرنامجهم بأقرب الوسائل الرسمية، وسيلة التشريع فى البرلمان
.
ومن كل هذا الذى تقدم يبدو الفرق الواسع بين الوطنى والسياسى، فالوطنى يعمل لإصلاح الحكم لا الحاكم، ولمقاومة المستعمر للحصول على الحرية، لا ليرثه فى السلطة، ولتركيز منهاج وفكر ودعوة، لا لتمجيد شخص أو حزب أو هيئة، ولهذا يحرص الإخوان المسلمون على أن يكونوا دائمًا وطنيين لا سياسيين ولا حزبيين، ولقد انغمر الإخوان فى محيط العمل الوطنى وساهموا فيه أعظم المساهمة فى الفترة الأخيرة بمناسبة انتهاء الحرب وتحفز الأمم والشعوب للحصول على حقوقها المغصوبة، باعتبار أنها الفرصة السانحة التى لا يمكن أن تعوض وأن هذا هو موسم العمل لهذه الناحية بالذات
.
وحاولت بعض الهيئات والجرائد والمجلات أن تصور هذا النشاط بأنه خروج من الإخوان عن برنامجهم، وتعرض لما لا يعنيهم، وأنه خلط بين الدين والسياسة، وفاتهم أنه إذا كان العرف قد جرى فى مصر على أن السياسة مهنة لبعض المحترفين، فإنه ليس فى الدنيا عرف يحرم الوطنية على المواطنين وأن الوطنية أجمل ما تكون إذا اقترنت بالدين، فحدّث إذن عن نتائجها الباهرة ولا حرج
.
ومن هنا كان الإخوان يضربون صفحًا عن مقابلة تهجم الأحزاب أو الهيئات عليهم بتهجم مثله، لأن مهمتهم تقويم هذا البناء المعوج لا مجاراته على عوجه
.
ومن هنا كذلك كانوا على استعداد كامل دائمًا لوضع يدهم فى أيدى أى هيئة تعمل لصالح هذا البلد أو لخير الدين أو الوطن، وكانوا أسبق الناس فى ترديد الدعوة إلى الوحدة وضم الجهود، وبخاصة فى مثل هذه الظروف التى تقرر فيها مصائر الأمم، وتعرض قضايا الشعوب والأوطان، ولكنهم فى هذه الأوضاع كلها سيكونون كما رسموا لأنفسهم وطنيين فقط، لا سياسيين، ولا حزبيين، والعاقبة للمتقين.. «وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ»).. انتهى
.
أعتقد أن هذه الكلمات من المرشد المؤسس للإخوان تعرض فكرة الإخوان عن العمل السياسى، وقد يكون أهم من هذا أن منطق العمل يصدق منطق القول، ففى سنة ١٩٤٦ كان الإخوان المسلمون أكبر الهيئات الجماهيرية حتى نافست الوفد على صدارة المجتمع، وكان أسهل شىء عليها أن تؤسس حزبًا وكانت فرصتها فى النجاح ستعادل فرصة حزب الوفد.. ولكن الإخوان لم يفكروا فى ذلك أبدًا
.
مع ملاحظة أن الترشيح للبرلمان لا يعد - بالضرورة - مشاركة فى الحكم، لأن مجلس النواب هو الهيئة التشريعية، أى التى تصدر القوانين، أما السلطة فإنها تكون ممثلة فى السلطة التنفيذية، أى الوزارة أو الحكومة، لم يكن هدف الإخوان من الترشيحات لمجلس النواب إلا أن يكون هناك صوت يدوى فى المجلس النيابى، ويثبت المبادئ الوطنية دستوريًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا، وهو واجب وطنى أكثر من سياسى أو حزبى، ولا يضاد فكر الإخوان، وإنما ينشأ الخوف عندما لا يقف الأمر عند مجلس النواب، ولكن يتعداه إلى السلطة، أى الحكم وهى المفسدة دون ريب
سينقل لينشر فى كل أرجاء المعمورة، وليقرأه الناس جميعًا مهما تباعدت ديارهم، ومع هذا كله تضطره السياسة أن يقول غير الحق.. ألا قاتل الله السياسة التى تجعل من الرجل الشريف مخادعًا دوليًا، ومرائيًا رسميًا، وفى أدق المواقف وأحرج الساعات

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق