اخر الاخبار

12‏/04‏/2011

ظلوم جهول /د. عمار علي حسن

صراع فى صراع، حروب وثورات، شعوب وحكومات، عدل وظلم، خير وشر، فقر وثراء، إمبراطوريات تسود ثم تبيد، طاغية يتجبر ثم يسقط تحت نعال الغاضبين.
 هكذا تمضى الحياة على الأرض بين الأوجاع والمسرات. ويجرى الإنسان على رزقه، يستيقظ صباحا ويعود مساء، يأكل ويتسلى وينام، ثم يستيقظ ليوم جديد. قليلون هم الذين يتوقفون ملياً أمام أنفسهم وأمام حكمة الوجود. فى غمرة التأمل فى حال البشر، انشقت الأرض عن كائنة من الفضاء البعيد، خطفتنى بعيدا فى كوكب لم تطأه قدم بشر، وقالت لى دون مقدمات
-
-
:هناك على الأرض تترعرع الأوهام.أى أوهام؟
-
يعتقد المتجبرون فى أرضكم أنهم وحدهم سكان هذا العالم. منذ آلاف السنين والبشر غارقون حتى ذقونهم فى خيال مريض، يصور لهم أنهم قادرون على فعل كل شىء، ولو جلس الواحد منهم مع نفسه ساعة من نهار، وتفكر ملياً فى الكون، لأدرك أن الأرض كلها ليست سوى برتقالة صغيرة تطير فى الهواء، وأنها كوكب فى مجموعة شمسية، هى واحدة من عدة مجموعات فى مجرة، هى واحدة من مجرات عديدة. وعندها سيدرك الإنسان حقيقة ذاته، ولن يفعل سوى الخير، ويجلس على عتبات عمره، لا يفكر فى شىء سوى الخلود.
ونظرت إليها متعجبا من منطقها، لكنها لم تعرنى أى اهتمام، ومصمصت شفتيها فى أسى ثم واصلت
-
:كم من دول سادت على أرضكم ثم بادت، وغرورها أيام فتوتها جعلها غاية فى العنجهية والسخف. لم يفكر هؤلاء الذين خاضوا الحروب، وسفكوا الدم، وأقاموا الإمبراطوريات مترامية الأطراف، أن أرضهم صغيرة جدا، ودولهم على عمرها المديد، ليست سوى طرفة عين فى الزمن اللانهائى، وأن كل ما جمعوه من مال ومجد وسلطان، مآله التلاشى، سيطير كما تذرو الرياح حبات الخردل، وقد يتبخر كما تموت بقعة من ماء، انحسر عنها البحر، وتركها نهباً للرمل والشمس وأقدام العابرين.
ووجدت الفرصة سانحة كى أسترد ما سلبته منى، فقلت لها متوددا
-
:ردى إلى عالمى الأول كى أفهم ما تقولين.
لكنها تجاهلت طلبى، وقالت
-
-
-
فقلت فى حبور
-
:يحارب البشر الشياطين التى يقرأون عنها فى الكتب المقدسة، وينسون الشياطين التى تجرى فى دمائهم، وتسكن تحت جلودهم، وتعايشهم فى الخيال والأحلام والكوابيس المخيفة، بل يتغافل كثير من الناس عن أنهم أنفسهم باتوا شياطين، يوسوسون ليل نهار، يتحدثون بأقوال ويأتون أفعالا، تحض على الرذيلة، وتشيع الفاحشة. فهززت رأسى فى ضيق وقلت:لا أعرف عما تتحدثين، فقد سلبت منى كل شىء، فلم أعد أعرف الفرق بين الملائكة والأبالسة. وهذه المرة التفتت إلىّ وقالت:هل تريد أن تعرف؟:نعم.
لكنها خيبت أملى حين قالت
-
-
:المعرفة شغل وهم، وجهل الكائن بما سيصيبه فى الغد نعمة يجب أن يحمد الله عليها ليل نهار. دع الغد لعلام الغيوب، أنا أريد أن أعرف الأمس.
فقالت لى بلهجة جافة
-
:أعلم أن معرفة الأمس تعنى أنك ستعيش هنا فى خلاء، لا ترى ولا تسمع إلا من يريد أن يسمعك صوته أو يريك صورته.
أخذت يديها بين يدى وقلت لها
-
-
:أنا من تراب، وترابى يحن إلى أصله، فاعذرينى إن كنت أشتاق إلى الأرض، فهناك الذكريات الجميلة، ووجوه أوحشتنى. فضحكت وقالت:فى الحقيقة لستم وحدكم المغرورين، فالجن رغم ما يحدث لهم منذ مئات السنين لا يكفون عن التنصت على خبر السماء. يقتربون ليسمعوا ما تردده الملائكة من أوامر الله ونواهيه عن الجن والبشر والشياطين، ثم يتفرقون فى الكون، مدعين أنهم يعرفون الغيب، وما يعرف الغيب إلا صاحبه.
فهززت رأسى، وقلت
-
-
-
-
-
:كل يوم أتأكد من أن الأرض أعظم من فضائكم، والإنسان أعجز مخلوقات الله. فلم تجادلنى فى هذا، لكنها تساءلت:ما الذى يجعلك تقول مثل هذا القول فى مقامنا هذا؟ فأجبتها فى ثقة:رغم الفضول الذى يحل برؤوس البشر، ويجعلهم تواقين إلى معرفة ما سيجرى لهم، فإن إيمانهم بالمقدور يغلب فضولهم، ورضاءهم بأن هناك خيراً كثيراً فى ذلك الحجاب القائم بين يومهم وغدهم، يجعل الحصيف منهم يعيش كل يوم وكأنه الأخير فى عمره، فيخلص فى العمل والعبادة، لكنه لا ينسى أن يتمتع بنعم الله، وكأنه سيعيش فى الدنيا إلى الأبد. لكنها ردت فى ثقة أكبر: أنتم مغرورون يا معشر البشر، تعتقدون أنكم تعرفون كل شىء، وتنسون معرفة أنفسكم. ثم زفرت فى أسى، وقالت بتوجع:سيطير الإنسان إلى الكواكب البعيدة، ليكتشف ما عليها، وسينجح، لكنه سيفشل حتى اللحظة الأخيرة من عمر البشرية فى معرفة نفسه. لن يعرف ما الروح؟ وكيف يولد الشعور؟ بل سيظل حائرا بين المضغة المسؤولة عن العشق.. أهى القلب، أم هى العقل؟ حقا إن الإنسان لظلوم جهول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق