اخر الاخبار

10‏/04‏/2011

ضرورات التغيير ومتطلبات الاستقرار /د. حسن نافعه

فاجأت ثورة ٢٥ يناير القوات المسلحة مثلما فاجأت غيرها من مؤسسات الدولة المصرية. ولأن المؤسسة العسكرية تُمسك بزمام القوة الفعلية فى البلاد وتبدو الأكثر تماسكا وانضباطا بالمقارنة
 بغيرها من المؤسسات المصرية فى الظروف الراهنة، فمن الطبيعى أن تشكل الملاذ الأخير للشعب فى ثورته، وأن تصبح المؤتمنة على إدارة شؤون الدولة بعد الإطاحة برأس النظام الحاكم. ولكى ندرك حقيقة ما يجرى حاليا على الساحة السياسية فى مصر، علينا أن نعترف بصعوبة الخيارات المتاحة أمام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد أن آلت إليه سلطة لم يسع إليها ولا يرغب فى الاحتفاظ بها
.
ولأنه لم يكن أمام المؤسسة العسكرية من خيار آخر سوى القبول بحمل الأمانة، فقد كان من الطبيعى أن تتولى بنفسها إدارة شؤون الدولة لفترة مؤقتة تسلم السلطة فى نهايتها إلى مؤسسات مدنية منتخبة، وهى مهمة عظيمة الشأن وخطيرة الأثر. ولأن التركة التى خلفها النظام السابق ثقيلة إلى درجة يصعب تصورها، والطرق المتاحة لإدارة المرحلة الانتقالية تبدو وعرة وغير سالكة، فليس من المستغرب أن تتسم عملية صنع القرار فى المرحلة الراهنة بقدر كبير من الغموض والضبابية، وأن تبدو الأيدى الممسكة بدفتها مترددة ومرتعشة
.
ولكى يتسم تقييمنا للدور السياسى الذى يضطلع به المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى تلك المرحلة الاستثنائية من تاريخ الوطن بالموضوعية، علينا أن نتذكر حقيقتين على جانب كبير من الأهمية. الحقيقة الأولى: أن هذا الدور لم يبدأ عقب سقوط رأس النظام وإنما بدأ قبل ذلك بكثير، وتحديدا حين قرر الرئيس السابق استدعاء الجيش للنزول إلى الشارع عقب فشل أجهزة الأمن فى التعامل مع المتظاهرين الثوار. والحقيقة الثانية: أنه كان دورا مختلفا عما رغبت فيه القيادة السياسية السابقة ومعاكسا لإرادتها
.
إذ يلاحظ أن القوات المسلحة نفذت الأمر الصادر لها من قيادتها بالنزول إلى الشارع، لكنها رفضت فى الوقت نفسه إطلاق النار على المتظاهرين أو استخدام العنف فى مواجهتهم، فحمت بهذا الموقف الوطنى النبيل ظهر الثورة وأمّنتها. وعندما ركبت القيادة السياسية رأسها وراحت تماطل فى الاستجابة لمطالب الثورة بطريقة مستفزة شكلت تهديدا لاستقرار البلاد وأمنها الوطنى، تخلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن حياده وبدأ يضغط لإقناعها بضروة التنحى ثم لإجبارها عليه، وشكل هذا الموقف الجسور خطوة حاسمة فى سبيل تمكين الثورة من تحقيق أهدافها
.
تعين على المجلس الأعلى للقوات المسلحة، حين انتقل إلى موقع الممسك بزمام السلطة السياسية، أن يراعى فى إدارته للمرحلة الانتقالية جملة من التوازنات بين قوى سياسية متنوعة المطالب والأهداف إلى درجة التناقض. وقد أسفرت محصلة الشد والجذب الناجمة عن هذه التفاعلات عن تبنى المجلس الأعلى للقوات المسلحة نهجاً إصلاحياً وانتقائياً، بدا أقرب إلى القوى المرتبطة بالنظام السابق منه إلى القوى صاحبة المصلحة فى التغيير الجذرى
.
وفى هذا السياق تم تشكيل لجنة لتعديل الدستور وطرح التعديلات المقترحة من جانبها فى استفتاء عام، بدلا من إصدار إعلان دستورى والشروع فى صياغة دستور جديد، وأقدم على التضحية ببعض رموز النظام السابق، بتجميد أموالهم أو منعهم من السفر أو تقديم بعضهم للمحاكمة، بدلا من تشكيل لجنة عامة ومستقلة للتطهير تتولى محاكمة المتهمين بنهب المال العام وبارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان المصرى، وتغيير قيادات النظام السابق المتغلغلة فى أجهزة الأمن والإعلام والجامعات والإدارة المحلية وغيرها بقيادات تعكس روح الثورة وتوجهاتها. وبتبنيه هذا النهج الإصلاحى البطىء، بدا المجلس الأعلى متسامحا أكثر مما ينبغى مع قوى الثورة المضادة وبرزت على سطح الحياة السياسية المصرية ظواهر جديدة أشاعت جوا عاما من القلق، منها
:
١
- ظهور اصطفافات سياسية جديدة راحت تأخذ شكل الاستقطاب بين تيارى الإسلام السياسى والعلمانى، من ناحية، وبين المسلمين والأقباط، من ناحية أخرى.
٢
- عودة القوى التى ساهمت فى تفجير ثم فى صنع الثورة ومساندتها إلى الانقسام على نفسها والتشرذم من جديد. ٣- ظهور فجوة بين الشعب من ناحية والمجلس الأعلى للقوات المسلحة من ناحية أخرى.
لم يكن النهج الإصلاحى الذى تم تبنيه يعود إلى تواطؤ بين المجلس الأعلى ورموز النظام القديم بقيادة الرئيس المخلوع، مثلما تدعى بعض قوى الثورة المضادة، بقدر ما كان راجعا، فى تقديرى، إلى عوامل أخرى بعضها يتعلق بالمجلس الأعلى وبعضها الآخر يتعلق بقوى الثورة من ناحية وبقوى الثورة المضادة، من ناحية أخرى
.
وفيما يتعلق بالمجموعة الأولى من العوامل، لوحظ على المجلس الأعلى للقوات المسلحة
:
١
- حرصه على تقصير الفترة الانتقالية إلى أدنى حد ممكن لمجرد أن يدفع عن نفسه تهمة، لم يوجهها إليه أحد، بأنه يطمع فى السلطة ويسعى للاحتفاظ بها.
٢
- محدودية خبرته بدهاليز العمل السياسى فى مصر وقراءته غير المدققة لخريطة وموازين القوى السياسية فى مصر عقب الثورة.
٣
- خشيته من تفاقم الأزمة الاقتصادية بسبب الحالة الثورية القائمة فى البلاد، من ناحية، وحرصه المبالغ فيه، من ناحية أخرى، على عودة سريعة إلى حالة الهدوء والاستقرار دون ربط هذه العودة بالاستجابة للمطالب العاجلة للثوار والقابلة للتنفيذ الفورى.
٤
- غلبة حالة مزاجية عامة على المؤسسة العسكرية تميل تقليديا للاصطفاف خلف التفكير المحافظ والأقرب إلى الفكر الإصلاحى منه إلى الفكر الراديكالى. أما فيما يتعلق بالعوامل الأخرى فيلاحظ: ١- انقسام وتشرذم القوى السياسية التى أسهمت فى إنجاح الثورة.
٢
- وجود حالة من الاستنفار والرغبة فى التحدى لدى القوى المرتبطة مصلحياً بالنظام القديم، والتى تملك المال ولاتزال تسيطر على مواقع حساسة فى مفاصل الدولة. ٣- خشية البعض من تعمد قوى الثورة المضادة استخدام قوتها المادية لإحداث هزات فى النشاط الاقتصادى واستخدام نفوذها السياسى فى إحداث هزات أمنية، وغياب بدائل مدروسة لمواجهة هذه المخططات سواء من جانب الحكومة أو من جانب قوى الثورة.نخلص من هذا التحليل إلى أننا نستبعد كل ما من شأنه التشكيك فى مصداقية أو نزاهة المجلس الأعلى للقوات المسلحة رغم تفشى حالة عامة من البلبلة تستدعى الانتباه واليقظة. ولأنه ليس من مصلحة أحد، باستثناء القوى التى تعمل بوعى أو دون وعى وفق أجندات خارجية مشبوهة، توسيع الهوة بين الشعب وقواته المسلحة الوطنية، يتعين على جميع المخلصين من أبناء هذا الوطن، أيا كانت مواقعهم الحزبية والفكرية، بذل كل ما فى وسعهم لتجاوز الأزمة الحالية والعمل بكل الوسائل المتاحة لديهم لسد فجوة عدم الثقة القائمة، وهو ما يتطلب القيام بسلسلة من الإجراءات تقع مسؤولية اتخاذها على جميع الأطراف.على المجلس الأعلى للقوات المسلحة والحكومة: ١- أن يتحدثا بصوت واحد، وأن يتولى متحدث رسمى باسمهما معاً عقد مؤتمر صحفى أسبوعى للرد على جميع الاستفسارات وتأكيد أو نفى ما يُنشر فى وسائل الإعلام. ٢- أن يدركا معا أن التهديد الأكبر للاستقرار، والذى قد يتسبب فى استفحال الأزمة الاقتصادية الراهنة، لا يكمن فى استمرار المظاهرات والاعتصامات والمطالب الفئوية بقدر ما يكمن فى استمرار القيادات التى عينها النظام السابق فى مواقعها، وإصرارها على السير على نفس النهج وممارسة نفس السياسات التى سادت قبل الثورة. ٣- تكليف لجنة مستقلة تتولى ملف التطهير وتشكيل محكمة خاصة لمحاكمة المتورطين فى جرائم الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان لتخفيف حدة الاحتقان الحالى وتهدئة النفوس. وعلى القوى الوطنية أن تعمل معا:
١
- لتجاوز ما وقع من خلاف عند الاستفتاء على التعديلات الدستورية.
٢
- لخلق توافق وطنى عام حول صياغة دستور جديد يؤسس لنظام ديمقراطى حقيقى.
٣
- لعزل القوى المتطرفة أو الراغبة فى فرض رؤاها وقناعاتها الأيديولوجية على الآخرين ولتوحيد صفوف القوى الراغبة فى إقامة دولة مدنية حديثة، بما فى ذلك قوى الإسلام السياسى المعتدل التى يتعين عليها أن تطور من خطابها السياسى على نحو يساعد على التحامها عضويا بالجماعة الوطنية، ولمقاومة نزعات الإقصاء والتهميش التى يتبناها البعض فى مواجهة خصومه السياسيين.
وعلى جميع الأطراف المعنية، بمن فى ذلك الشخصيات الطامحة لخوض معركة الانتخابات الرئاسية، أن تدرك أن مصر تمر الآن بمرحلة تستهدف التأسيس لنظام سياسى جديد. ولأن تحقيق هذا الهدف يتطلب خلق توافق عام بين جميع القوى التى فجرت الثورة وصنعتها وحمتها وساعدت على تحقيقها النصر، يتعين على هذه القوى جميعا أن تلتحم معاً وألا تسمح لأحد بإحداث أى انشقاق فى صفوفها وأن تتوحد فى مواجهة أعداء التغيير، وهم حصريا: قادة ورموز النظام السابق، والمرتبطون بأجندات خارجية، والمتطرفون الساعون لبث الفتن الطائفية أو الاجتماعية


. من هذا المنطلق، ورغم تأييدى الكامل لحق القوى الساعية للتغيير فى التظاهر للضغط من أجل الإسراع بمحاكمة رموز النظام القديم، إلا أننى لم أفهم لماذا أصرت قلة من المتظاهرين يوم الجمعة الماضى على الاعتصام فى ميدان التحرير، وهو أمر يجب أن يخضع مستقبلا لقرار جماعى من الجهات الداعية للتظاهر، كما لم أفهم لماذا شارك بعض الضباط بزيهم العسكرى فى هذا الاعتصام، وهو أمر يجب أن نرفضه شكلا وموضوعا لأن ضرره أكبر من نفعه بكثير. أتمنى أن تنسى القوى صاحبة المصلحة فى التغيير هوياتها الحزبية بعض الشىء، فى هذه المرحلة الحساسة من تاريخ مصر، وأن تفكر أكثر فى مصر ومستقبلها، وأن تتمكن، من ثم، من التوافق معا للنزول بقائمة موحدة فى الانتخابات التشريعية المقبلة لتشكيل برلمان ثم لجنة لصياغة الدستور الجديد يليقان بمصر الجديدة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق