اخر الاخبار

25‏/04‏/2013

لجوء إلى الجمال بقلم محمد المخزنجي


( باختصار، أرى أن أبشع ما أدخلنا فيه حكم الإخوان ومُشايعيهم، هو نفى الأمة عن تذوق الجمال فى تألقات الحياة وإبداعات البشر، فهم حتى فى خطابهم السياسى لا تلمح لواحدهم جملة متألقة ولا فكرة خلابة، وأقصى ما فى جعبة أفضلهم مجرد إنشاء مدرسى مسطح، ناهيك عن فلتات اللسان الهابطة لكثيرين منهم. وذلك غريب على أمة جافت الجلافة منذ فجر التاريخ. إحساسى بذلك يجعلنى أفكر فى أن العناية بالثقافة هى أداة مقاومة سياسية فاعلة وواجبة، لهذا أستعيد هذا المقال فى الثقافة العلمية كبداية، أود أن تتكرر كثيرا):
نصفُ قرنٍ لنبضة

  «إنها تنبض»، نعم تنبض، تنبض بإيقاع ضربات القلب التى يتعلم لحنها كل طلبة الطب فى العالم « لَبْ دَبْ، لَبْ دَبْ، لُبْ دَبْ »، لم يكن يصدق ما تراه عيناه عبر الشاشة التى تنقل ما تنظر إليه عيون المجهر فى معمله، لكن قلبه كان يصدق، ومن فرط تصديقه اختلج: «كاد قلبى يتوقف من الفرح»، يقولها مُحاضِراً فى محفل علمى عالمى، فتدوى القاعة بالتصفيق، ليس فقط لصدق وبراءة المُحاضر ذى الوجه والقوام اللطيفين، ولكن لأن هذه الخفقة من قلبه كانت تعلن عن انتصارٍ كبيرٍ فى مسيرة البحث عن خلية جذعية فائقة، وبلا شبهات. بحث بدأ باكتشاف أن خلية ضفدع بالغة، بها نفس عدد الجينات التى تضمها خلية جنينية، وإذا كانت الخلية الجنينية قادرة على التجدُّد الذاتى، ثم التمايز إلى كل أنواع الخلايا المكونة لكل أعضاء وأجهزة الجسد، فإن الخلية البالغة يمكنها العودة إلى جذورها، فتصير جنينية، وتتحول لتعطى كافة أنواع الخلايا.


  كان صاحب هذا الاكتشاف التمهيدى هو البريطانى «جون جوردون»، وصل إليه عام 1962، فيما كان صاحبنا اليابانى «شينيا يامانكا» وليداً يُبهره النور، وينتظره كما المعتاد فى عائلات الصناعيين فى كل الدنيا، مستقبل رجل صناعة يابانى يرث عن والده مصنعاً متميزاً لماكينات الخياطة، لكن والده غيَّر هذا المعتاد، دافعاً بابنه ووريثه لدراسة الطب بدلاً من الهندسة أو إدارة الأعمال، فيصل الابن فيما أحبه له والده، وأحبه لنفسه بالتأكيد، إلى فتحٍ علميٍّ عالمى فى تحويل الخلايا الجسدية البالغة إلى خلايا جذعية، شبه جنينية، ويحصل مع جون جوردون مؤسس الفكرة المُلهِمة، على جائزة نوبل فى الطب فى العام الفائت.

  درس شينيا الطب ثم تخصص فى جراحة العظام، لكنه سيراً على درب والده المُجدِّد، غيّر القاعدة أيضاً، فزهد فى الجراحة مبكراً، ولعل عمليات بتر الأطراف التى يُقدَّر لكل جراح عظام أن يجريها مضطراً، هى التى زهَّدته، وقادته إلى فرع طبى جديد لا بتر فيه ولا نزف ولا إعاقة، طبٌ وليد يحمل اسم «الطب التجديدي»، ويطمح إلى توظيف الخلايا الجذعية فى ترميم القلوب المذبوحة، والأكباد المقروحة، والأعصاب المقطوعة، والكلى الخامدة، والجلود المحروقة، وكل معطوب فى أجسامنا، بلا نزف ولا ألم، فكأنها تولد من جديد، ومن ذات نفسها. حلمٌ شَرَع جراح العظام المتحوِّل يسعى فى دروبه وهو فى الثلاثين، فاصطدم بما اصطدم به أقرانه المُعتَّقون فى الفرع الجديد، اصطدم بمعضلات الخلايا الجنينية التى تمثل فجر هذا الطب، وغسقه العابر. لكنه كان أصغر من أن تحبطه الاصطدامة.

    «شينيا. شينيا. لقد حدث شىء غريب لفأرك، فهو حامل برغم أنه ذكر»! بهذا الاستغراب المبهوت استقبلته مساعدته المسئولة عن رعاية فئران تجاربه المعملية فى جامعة «كيوتو»، وتولاه جزعٌ غامض برغم عدم تصديقه لحدوث ذلك، وعند تشريح الفأر الذى كان قد زرع فيه خلايا جنينية لتتحول إلى خلايا كبدية ترمم كبد الفأر المعطوب معملياً، مع إنزيم مثبط للمناعة حتى لا يلفظ الجسم الخلايا المزروعة، صعقه ورم خبيث تكوَّن ونما من جنوح تلك الخلايا، كتلة سرطانية يسمونها أحياناً «عجبية» وأحياناً «مسخية»، وهى عجبية ومسخية معاً، بها أسنان، شعر، جلد، وما لا يمكن تصوره من أنسجة حية. ورم مرعب فى مبناه ومغزاه، كاد ينسف أحلام شينيا البحثية كلها، لولا أنه كان شاباً وكان صبوراً ودءوباً كما يابانيٍّ أريب. ثم إن صدمته لم تكن وقفاً عليه وحده، بل كانت شاغل كل المشتغلين بأبحاث الخلايا الجذعية الجنينية فى العالم، فبرغم سهولة تنمية الخلايا الجنينية معملياً وتكثيرها والحصاد الوفير منها وغزارة تحوّلها إلى أنواع مختلفة من الخلايا المتخصصة، إلا أنها ملغومة باحتمالات الرفض وتكوين السرطان، وتحيط الشبهات بسبل ومصادر الحصول عليها، إن من أجنة مُجهَضة، أو من عمليات إخصاب خارج الرحم ليست شفافة ولا أخلاقية، ثم إن هناك محاذير دينية تشدد على أن تدمير جنين، ولو كان مضغة، للحصول على خلايا جذعية منه، هو قتلٌ لروح، يساوى قتل إنسان مكتمل. مُعضلات طبية وأخلاقية ودينية شكلت حركة نزوح كبير لكثير من المشتغلين بالخلايا الجنينية، باتجاه الخلايا الجسدية المأمول تحويلها إلى خلايا جذعية شبه جنينية. ونزح شينيا مع النازحين.

  لطيف هو شينيا يامانكا فى مظهره وجوهره الذى ينطوى على روح شرقى يابانى تماماً، فهو يصطحب زوجته وأختيه الأصغر منه فى معظم رحلاته العلمية الخارجية بعد أن سطع نجمه منذ عشر سنوات على الأقل قبل أن يفوز بنوبل، ولعل هذا اللطف هو الذى قاده إلى إنجازه العلمى المبهر. انطلق من مُسلَّمة أن (الخلية الجسدية المتخصصة بها الثلاثون ألف «جين» نفسها التى بالخلية الجنينية، لكن الأولى عند بلوغها وتخصصها تتوقف عن تفعيل الكثير من جينات صباها)، وكان البحث محتدماً فى العالم عن وسائل لتفعيل هذه الجينات الخاملة، لتعود بزمنها الحيوى إلى فترة خصوبتها، وتعطى ما تعطيه الخلايا الجنينية من وفرة وتنوُّع. وصكَّ شينيا لهذا التفعيل الحلم تعبير «إعادة برمجة الخلية».

  كان الرأى البحثى العالمى النظرى السائد أنه لإحداث «إعادة البرمجة» هذه، ينبغى إدخال مائة جين مُحفِّز إلى المجمع الجينى للخلية الجسدية لتنشيط الخامل من جيناتها، وكان ذلك العدد كبيراً، ويجعل حلم التحويل الخارق للخلية البالغة مؤجَّلاً لعشرات السنين. لكن شينيا اليابانى، بسليقة يابانية ودأب شرق آسيوى، استطاع النزول بهذا العدد إلى ثلاثة جينات لا غير، ثم إنه كما لو كان صناعياً يابانياً يجعل من أعقد الأجهزة الالكترونية أداة سهلة التشغيل سلسة الإنجاز، استخدم خلية فيروسية مُعقَّمة كمركبة متناهية الصغر تحمل الجينات الثلاثة، وتلج بها الخلية المستهدفة، وتُلقى بحملها الخفيف على المجموع الجينى للخلية، فتقوم الجينات الثلاثة بعملية «الحث»، وتوقظ الجينات الغافية من سُباتها، فتستعيد الخلية الجسدية خصوبتها الباكرة، وتعود كما الجنينية، بل تتفوق عليها بانعدام الرفض، كون متلقيها هو مانحها، كما أن الحصول عليها لا تتربص به الشبهات، فهى مجرد عيِّنة تؤخذ بشكة إبرة، من نسيج عادى كالجلد، فلا إجهاضٌ مأجور، ولا احتيال للحصول على أجنة مسروقة من مراكز «أطفال الأنابيب»!

  استطاع شينيا بطريقته التى أسماها «الخلايا المُستحثَّة متعددة الإمكانات» أن يحول خلايا الجلد إلى خلايا متنوعة، أشهرها لديه هو الخلايا العصبية، والتى عالج بها فعلياً إصابات الحبل الشوكى المُحدَثة معملياً فى الفئران، فاستعادت الفئران حركتها بعد أن كانت مشلولة، لكنه بأمانة عالم فى ربيع عمره البحثى، لم ينس أن يحذر من الإفراط فى تسويق نتائج لا تزال فى طور التجريب، بل دق بلطف يابانى لا خشونة فيه جرس إنذار وتحذير من عمليات الاحتيال والانتحال فى تسويق علاجات زائفة بالخلايا الجذعية تنتشر عبر العالم.

  أبدى شينيا ولا يزال يُبدى الكثير من القدرات اليابانية فى ضبط النفس حيال نجاحاته والآمال المُبشِّرة بها، لكنه فيما يخص خلية القلب الخافقة التى حصل عليها بطريقته من خلية جلد ساكنة، لم يستطع السيطرة على انفعالاته، فأشهَرَ فرحه الذى كاد يوقف قلبه المنتفض عندما رأى الخلية الوليدة فى معمله تنبض. تنبض، ويتواصل نبضها. نبضات لا تستغرق الواحدة منها أكثر من ثانية، لكنها ثانية تختزل مسيرة خمسين عاماً من الحلم، والعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق