اخر الاخبار

28‏/12‏/2012

معارك الدستور.. سنوات الهدوء بقلم عماد ابو غازي



بعد شهور قليلة من عودة العمل بدستور 1923 توفى الملك أحمد فؤاد وخلفه على عرش مصر ابنه فاروق، وخلال سنوات حكم فاروق الستة عشر تحول الصراع الدستورى إلى أسلوب جديد، أسلوب الصراع بالنقاط وليس بالضربات القاضية.
المعركة الأولى التى تهاونت فيها حكومة الوفد كانت معركة اختيار رئيس الديوان الملكى، فبعد تولى فاروق سلطاته الدستورية كاملة وانتهاء مرحلة الوصاية على العرش بأشهر قليلة، وفى شهر أكتوبر 1937 عين الملك فاروق على باشا ماهر رئيسا للديوان الملكى دون مشاورة الحكومة.

كان الصراع حول السلطات الدستورية للملك قد بدأ مع أول حكومة دستورية شكلها سعد زغلول بعد صدور دستور 23، يومها أصر سعد على أن اختيار رئيس الديوان وموظفى السرايا يجب أن يحظى بموافقة الحكومة، وانتصر فى معركته، لكن حكومة الوفد سنة 1937 لم تتمسك بحقها فى الموافقة على تعيين رئيس الديوان، وتغاضت عن إصدار الملك لقرار تعيين على ماهر وسكتت عنه، فاتجه الملك ورئيس ديوانه إلى انتزاع مزيد من السلطات الدستورية من الحكومة، كأن يكون للملك الرأى النهائى فى منح الرتب والنياشين، وفى تقديم مشروعات القوانين للبرلمان، وفى تعيين موفى السرايا.


 وتفاقمت الأزمة بين الملك والحكومة، وقبل أن ينتهى عام 37 كان فاروق قد أقال حكومة النحاس باشا مستندا إلى المظاهرات المعارضة للحكومة التى توجهت إلى قصر عابدين، ومنتهزا فرصة الانشقاق الذى وقع فى حزب الوفد، وجاء فى أسباب إقالة الحكومة: «مجافاتها لروح الدستور وبعدها عن احترام الحريات العامة وتعذر إيجاد سبيل لإصلاح الأمور على يد وزارة يرأسها مصطفى النحاس».

 وفى نفس اليوم كلف الملك محمد باشا محمود بتأليف حكومة جديدة ضمت خليطا من الساسة الجاهزين للمشاركة فى كل الانقلابات الدستورية، وأجلت الحكومة انعقاد البرلمان شهرا ثم استصدرات مرسوما ملكيا بحله، وأجرت انتخابات جديدة تحت إشرافها، انتهت إلى حصول حزب الوفد على 12 مقعدا فقط نتيجة للتزوير المفضوح.

وعن هذه الأزمة الدستورية ودور محمد باشا محمود فيها، قال محمد زكى عبدالقادر فى كتابه «محنة الدستور 1923 ــ 1952»: «لكن خطأه وخطأ غيره ممن أقدموا على هذه التجارب غير الدستورية أنهم ربطوا بينها وبين قوة الوفد، على أن النظر العميق كان يجب أن يهديهم إلى ما هو أقوم من هذا سبيلا، فإن المطالبة بالدستور والتلهف لتحقيقه والحرص عليه كان فى مصر قبل حركة عرابى، وبعد حركة عرابى، وفى أيام مصطفى كامل، وقد طالب به حزب الأمة الأب الروحى لحزب الأحرار الدستوريين الذى يرأسه محمد محمود. ولئن كانت أخطأ الوفد قد أضعفته، فإن الإيمان بالدستور لم يضعف، والنفور من الحكم المطلق كان يزداد يوما بعد يوم».

لقد شاركت أحزاب الأقلية (الأحرار الدستوريين والسعديين والحزب الوطنى) الملك فاروق ورئيس ديوانه على ماهر فى أول معركة ضد الشرعية الدستورية، معركة كان هدفها نقل السلطة من الشعب إلى الملك، وأداتها تزوير الانتخابات، ولم تستمر حكومة محمد محمود فى الحكم كثيرا فقد استقالت الحكومة بناء على تبليغ من الملك فى أغسطس 1939، وفى ظل برلمان أتى بالتزوير، توالت على حكم البلاد ثلاث حكومات، برئاسة على ماهر ثم حسن صبرى ثم حسين سرى، وفى فبراير عام 1942 وبعد تأزم موقف الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية، وتقدم القوات الألمانية فى الأراضى المصرية من الغرب، وتفاقم الأزمات التموينية وزيادة الغضب الشعبى فى الداخل أرغم الإنجليز الملك على تكليف النحاس برئاسة الحكومة فى حادثة 4 فبراير الشهيرة.

وبعد أن تولى النحاس الحكم أجرى انتخابات برلمانية جديدة فى شهر مارس فاز فيها الوفد بأغلبية كبيرة، واستمر الوفد فى الحكم قرابة عامين مستندا إلى أغلبية برلمانية كبيرة، ومعتمدا على انكماش دور السرايا وتدخلاتها من تأثير اللطمة التى تلقتها من الإنجليز، لكن مع اقتراب نهاية الحرب العالمية وتغير موازين القوة لصالح الحلفاء لم يعد الإنجليز فى حاجة لحكومة الوفد التى تستند إلى أغلبية شعبية حقيقية، وأعطوا الضوء الأخضر لفاروق ليطيح بحكومة النحاس، فأقال الملك الحكومة فى أكتوبر 1944، وكلف أحمد ماهر زعيم السعديين بتشكيل الحكومة الجديدة، وجاء فى خطاب الإقالة: «لما كنت حريصا على أن تحكم بلادى وزارة ديمقراطية تعمل للوطن وتطبق أحكام الدستور نصا وروحا، ونتسوى بين المصريين جميعا فى الحقوق والواجبات، وتقوم بتوفير الغذاء والكساء لطبقات الشعب؛ فقد رأينا أن نقيلكم من منصبكم، وأصدرنا أمرنا هذا لمقامكم الرفيع شاكرين لكم ولحضرات الوزراء زملائكم ما أمكنكم أداؤه من الخدمات أثناء قيامكم بمهمتكم».

وقع هذا الانقلاب الدستورى الخامس فى تاريخ مصر بنفس أسلوب الانقلاب السابق عليه، مرسوم من الملك بإقالة حكومة تتمتع بالأغلبية البرلمانية، ثم تكليف حكومة جديدة لا يساندها البرلمان، ثم حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة. وفى هذه المرة قاطع الوفد الانتخابات وفاز السعديون بالأغلبية، واستمر الانقلاب الدستورى خمس سنوات، انتهت فى منصف عام 1949 بتشكيل وزارة ائتلافية برئاسة حسين سرى باشا سرعان ما حلت محلها وزارة محايدة أجرت انتخابات جديدة فى 3 يناير 1950 فاز فيها حزب الوفد بأغلبية ساحقة وشكل حكومته الأخيرة التى أقالها الملك عقب حريق القاهرة فى يناير 1952.

لقد استمر الصراع الدستورى طوال عصر فاروق وعصف الملك بالحكومات المنتخبة ثلاث مرات، ونجح فى ظل انقلاباته الدستورية فى توسيع سلطاته على حساب سلطات الحكومة البرلمانية خطوة بخطوة، فانتزع حق تعيين رئيس الديوان وموظفى السرايا، ثم حق تعيين موظفى السلك الدبلوماسى مجردا الحكومة من سلطاتها على الدبلوماسيين المصريين فى الخارج، ومسيطرا بذلك على رسم السياسة الخارجية وتنفيذها، ثم أصبح رأيه مقدما فى تعينات الوظائف الكبرى فى الدولة، كما انتزع الملك حق تعيين قائد الجيش، فضلا على السيطرة على الأزهر والمعاهد الدينية.

وهكذا انتهى الحال قبيل انقلاب يوليو 1952 بمصر بلد دستورى انتهك فيه الملك سلطات الحكومة البرلمانية وتغول على حسابها، فأفرغ دستور البلاد من محتواه، فى ظل خنوع حكومات الانقلابات الدستورية، وتراجع مقاومة الحكومات الشعبية تدريجيا أمام ضغوط الملك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق